فصل: كتاب الاكراه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط



.بابُ التَّعْزِيرِ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) ذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: لَا يُبْلَغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعُونَ سَوْطًا، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ سَوْطًا أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ الْحَدِّ، وَهُوَ حَدُّ الْعَبِيدِ فِي الْقَذْفِ، وَالشُّرْبِ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ، فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ»، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ، ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً، وَسَبْعِينَ سَوْطًا؛ لِأَنَّ أَدْنَى الْحَدِّ ثَمَانُونَ سَوْطًا، وَحَدُّ الْعَبْدِ نِصْفُ الْحُرِّ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ أَيْضًا، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ تِسْعَةً، وَسَبْعِينَ سَوْطًا، وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَأَمَّا تَقْدِيرُ النُّقْصَانِ بِالْخَمْسَةِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى، فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، وَالتَّعْزِيرِ بَيْنَ خَمْسَةِ أَسْوَاطٍ، وَيَضْرِبُ دُفْعَةً، فَإِنَّمَا نَقَصَ فِي التَّعْزِيرِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، وَذَلِكَ خَمْسَةُ أَسْوَاطٍ.
.
وَإِذَا أُخِذَ الرَّجُلُ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ أَصَابَ مِنْهَا كُلَّ مُحَرَّمٍ غَيْرَ الْجِمَاعِ عُزِّرَ بِتِسْعَةٍ، وَثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ كُلَّ مِنْ ارْتَكَبَ مُحَرَّمًا لَيْسَ فِيهِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ، ثُمَّ الرَّأْيُ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ، وَيَبْنِي ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ جَرِيمَتِهِ، وَهَذِهِ جَرِيمَةٌ مُتَكَامِلَةٌ، فَلِهَذَا قُدِّرَ التَّعْزِيرُ فِيهَا بِتِسْعَةٍ، وَثَلَاثِينَ سَوْطًا، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الضَّرْبَ فِي التَّعْزِيرِ أَشَدُّ مِنْهُ فِي الْحُدُودِ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ تَخْفِيفٌ مِنْ حَيْثُ نُقْصَانُ الْعَدَدِ، وَأَنَّهُ يُنْزَعُ ثِيَابُهُ عِنْدَ الضَّرَرِ، وَيُضْرَبُ عَلَى ظَهْرِهِ، وَلَا يُفَرَّقُ عَلَى أَعْضَائِهِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ، وَإِذَا نَقَبَ السَّارِقُ النَّقْبَ، وَأَخَذَ الْمَتَاعَ، فَأُخِذَ فِي الْبَيْتِ، أَوْ أُخِذَ، وَقَدْ خَرَجَ بِمَتَاعٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ، فَإِنَّهُ يُعَزَّرُ لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا، وَالْمَرْأَةُ فِي التَّعْزِيرِ كَالرَّجُلِ؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْزِيرِ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ، فَاسِقًا مُتَّهَمًا بِالشَّرِّ كُلِّهِ، فَأُخِذَ عُزِّرَ لِفِسْقِهِ، وَحُبِسَ حَتَّى يُحْدِثَ تَوْبَةً؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ، وَقَدْ «حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فِي تُهْمَةٍ».
وَاَلَّذِي يَزْنِي فِي شَهْرِ رَمَضَانَ نَهَارًا، فَيَدَّعِي شُبْهَةً يَدْرَأُ بِهَا الْحَدَّ عَنْ نَفْسِهِ يُعَزَّرُ لِإِفْطَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْحَرَامِ بِإِفْطَارِهِ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ زَانِيًا بِمَا ادَّعَى مِنْ الشُّبْهَةِ، وَلَا يُحْبَسُ هُنَا؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ، فَأَمَّا جَزَاءُ الْفِعْلِ الَّذِي بَاشَرَهُ، فَالتَّعْزِيرُ، وَقَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ، وَالْمُسْلِمُ الَّذِي يَأْكُلُ الرِّبَا، أَوْ يَبِيعُ الْخَمْرَ، وَلَا يَنْزِعُ عَنْ ذَلِكَ إذَا رُفِعَ إلَى الْإِمَامِ يُعَزِّرُهُ، وَكَذَلِكَ الْمُخَنَّثُ، وَالنَّائِحَةُ، وَالْمُغَنِّيَةُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُعَزَّرُونَ بِمَا ارْتَكَبُوا مِنْ الْمُحَرَّمِ، وَيُحْبَسُونَ حَتَّى يُحْدِثُوا التَّوْبَةَ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ التَّعْزِيرِ عَلَيْهِمْ مُصِرُّونَ عَلَى سُوءِ صَنِيعِهِمْ، وَذَلِكَ، فَوْقَ التُّهْمَةِ فِي إيجَابِ حَبْسِهِمْ إلَى أَنْ يُحْدِثُوا التَّوْبَةَ، وَإِذَا شَتَمَ الْمُسْلِمُ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً، أَوْ قَذَفَهَا بِالزِّنَا عُزِّرَ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّةَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا، وَلَكِنَّ قَاذِفَهَا مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، فَيُعَزَّرُ، وَكَذَلِكَ إذَا قَذَفَ مُسْلِمَةً قَدْ زَنَتْ، أَوْ مُسْلِمًا قَدْ زَنَى، أَوْ أَمَةً مُسْلِمَةً؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مِنْ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَلَكِنَّ الْقَاذِفَ مُرْتَكِبٌ مَا هُوَ حَرَامٌ، وَهُوَ إشَاعَةُ الْفَاحِشَةِ، وَهَتْكٌ لِلسِّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ عَلَيْهِ، وَإِذَا قَطَعَ اللُّصُوصُ الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ، فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ دَفْعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ، فَهُوَ شَهِيدٌ»، وَإِذَا اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يُعِينُوهُمْ، وَيُقَاتِلُوهُمْ مَعَهُمْ، وَإِنْ أَتَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَرْضٌ، وَبِذَلِكَ، وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ أُمَّةٍ، فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا ذَلِكَ إذَا قَدَرُوا عَلَيْهِ.
قُلْت، وَالرَّجُلُ يَخْتَرِطُ السَّيْفَ عَلَى الرَّجُلِ، وَيُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَهُ، وَلَمْ يَفْعَلْ، أَوْ شَدَّ عَلَيْهِ بِسِكِّينٍ، أَوْ عَصًا، ثُمَّ لَمْ يَضْرِبْهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَلْ يُعَزَّرُ قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ مِنْ تَخْوِيفِ الْمُسْلِمِ، وَالْقَصْدُ إلَى قَتْلِهِ، قُلْت، وَالرَّجُلُ يُوجَدُ فِي بَيْتِهِ الْخَمْرُ بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ فَاسِقٌ، أَوْ يُوجَدُ الْقَوْمُ مُجْتَمَعِينَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَرَهُمْ أَحَدٌ يَشْرَبُونَهَا غَيْرَ أَنَّهُمْ جَلَسُوا مَجْلِسَ مَنْ يَشْرَبُهَا هَلْ يُعَزَّرُونَ قَالَ: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْفَاسِقَ يَسْتَعِدُّ الْخَمْرَ لِلشُّرْبِ، وَأَنَّ الْقَوْمَ يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهَا لِإِرَادَةِ الشُّرْبِ، وَلَكِنْ بِمُجَرَّدِ الظَّاهِرِ لَا يَتَقَرَّرُ السَّبَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، وَالتَّعْزِيرُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ، فَلِهَذَا يُعَزَّرُونَ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُوجَدُ مَعَهُ رَكْوَةٌ مِنْ الْخَمْرِ بِالْكُوفَةِ، أَوْ قَالَ رَكْوَةٌ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي عَهْدِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى الشَّارِبِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ يَشْرَبُ بَعْضَهَا، وَيَقْصِدُ الشُّرْبَ فِيمَا بَقِيَ مَعَهُ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لِهَذَا الْقَائِلِ لِمَ تَحُدَّهُ قَالَ: لِأَنَّ مَعَهُ آلَةَ الشُّرْبِ، وَالْفَسَادِ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَارْجُمْهُ إذًا، فَإِنَّ مَعَهُ آلَةَ الزِّنَا، فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ، وَالتُّهْمَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.بابُ مَنْ طَبَخَ الْعَصِيرَ:

(قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ) رَجُلٌ طَبَخَ عَشَرَةَ أَرْطَالِ عَصِيرٍ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ رِطْلٌ، ثُمَّ أَهْرَاقَ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ مِنْهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَطْبُخَ الْبَقِيَّةَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهَا كَمْ يَطْبُخُهَا قَالَ: يَطْبُخُهَا حَتَّى يَبْقَى مِنْهَا رِطْلَانِ، وَتُسْعَا رِطْلٍ؛ لِأَنَّ الرِّطْلَ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ، وَكَانَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ تِسْعَةُ أَرْطَالٍ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ رِطْلٍ مِنْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى رِطْلٍ، وَتُسْعٍ؛ لِأَنَّ الذَّاهِبَ بِالْغَلَيَانِ اقْتَسَمَ عَلَى مَا بَقِيَ أَتْسَاعًا، فَإِنْ انْصَبَّ مِنْهُ ثَلَاثَةُ أَرْطَالٍ، وَثَلَاثَةُ أَتْسَاعِ رِطْلٍ يَكُونُ الْبَاقِي سِتَّةَ أَرْطَالٍ، وَسِتَّةَ أَتْسَاعِ رِطْلٍ، فَيَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ الثُّلُثُ، وَهُوَ رِطْلَانِ، وَتُسْعَا رِطْلٍ.
وَلَوْ كَانَ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ رِطْلَانِ ثُمَّ إهْرَاقَ مِنْهُ رِطْلَانِ قَالَ: يَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ رِطْلَانِ، وَنِصْفٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ رِطْلَانِ، فَالْبَاقِي ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ كُلُّ رِطْلٍ فِي مَعْنَى رِطْلٍ، وَرُبْعٍ، فَلَمَّا انْصَبَّ مِنْهُ رِطْلَانِ، فَاَلَّذِي انْصَبَّ فِي الْمَعْنَى رِطْلَانِ، وَنِصْفٌ، وَالْبَاقِي مِنْ الْعَصِيرِ سَبْعَةُ أَرْطَالٍ، وَنِصْفٌ، وَإِنْ ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، ثُمَّ انْصَبَّ رِطْلٌ وَاحِدٌ مِنْهُ، أَوْ أَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُ رِطْلًا قَالَ يَطْبُخُ الْبَاقِيَ حَتَّى يَبْقَى مِنْهُ رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَهَبَ بِالْغَلَيَانِ خَمْسَةُ أَرْطَالٍ، فَمَا ذَهَبَ فِي الْمَعْنَى دَاخِلٌ فِيمَا بَقِيَ، وَصَارَ كُلُّ رِطْلٍ بِمَعْنَى رِطْلَيْنِ، فَلَمَّا انْصَبَّ مِنْ الْبَاقِي رِطْلٌ كَانَ الْبَاقِي بَعْدَهُ مِنْ الْعَصِيرِ ثَمَانِيَةَ أَرْطَالٍ، فَيَطْبُخُهُ إلَى أَنْ يَبْقَى ثُلُثُ ثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ، وَذَلِكَ رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ فِي تَخْرِيجِ جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، فَقَالَ: السَّبِيلُ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ الْجَمِيعِ، فَيَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ مَا انْصَبَّ مِنْهُ، ثُمَّ يَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ، فَمَا خَرَجَ بِالْقِسْمَةِ، فَهُوَ حَلَالٌ مَا بَقِيَ مِنْهُ، وَبَيَانُ هَذَا: أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى، فَتَأْخُذُ ثُلُثَ الْعَصِيرِ ثَلَاثَةً، وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَمَا انْصَبَّ مِنْهُ، وَهُوَ سِتَّةٌ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَقْسِمُ الْعِشْرِينَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ مَا ذَهَبَ بِالطَّبْخِ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْصَبَّ مِنْهُ شَيْءٌ، وَذَلِكَ تِسْعَةٌ، وَإِذَا قَسَمْت عِشْرِينَ عَلَى تِسْعَةٍ، فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ وَتُسْعَانِ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَلَالَ مَا بَقِيَ رِطْلَانِ، وَتُسْعَا رِطْلٍ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ تَأْخُذُ أَيْضًا ثَلَاثَةً وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ، وَهُوَ سِتَّةٌ، فَيَكُونُ عِشْرِينَ، ثُمَّ تَقْسِمُ ذَلِكَ عَلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ الطَّبْخِ قَبْلَ الِانْصِبَابِ، وَهُوَ ثَمَانِيَةٌ، فَكُلُّ قِسْمٍ مِنْ ذَلِكَ اثْنَانِ، وَنِصْفٌ، فَعَرَفْنَا أَنَّ حَلَالَ مَا بَقِيَ مِنْهُ رِطْلَانِ، وَنِصْفٌ.
وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ تَأْخُذُ ثَلَاثَةً، وَثُلُثًا، وَتَضْرِبُهُ فِيمَا بَقِيَ بَعْدَ الِانْصِبَابِ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ، فَيَكُونُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَثُلُثًا، ثُمَّ تَقْسِمُهُ عَلَى مَا بَقِيَ قَبْلَ الِانْصِبَابِ بَعْدَ الطَّبْخِ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، فَيَكُونُ كُلُّ قِسْمٍ اثْنَيْنِ، وَثُلُثَيْنِ، فَلِهَذَا قُلْنَا يَطْبُخُهُ حَتَّى يَبْقَى رِطْلَانِ، وَثُلُثَا رِطْلٍ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: حَتَّى يَبْقَى رِطْلَانِ، وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسٍ، وَثُلُثُ خُمُسٍ، وَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ ثُلُثَيْ رِطْلٍ إذَا تَأَمَّلْت، وَرُبَّمَا يَتَكَلَّفُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمُ اللَّهُ- لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ مِنْ الْجَبْرِ، وَالْمُقَابَلَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِهَا كَثِيرُ فَائِدَةٍ هُنَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

.كتاب الاكراه:

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً الْإِكْرَاهُ: اسْمٌ لِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ بِغَيْرِهِ، فَيَنْتَفِي بِهِ رِضَاهُ، أَوْ يَفْسُدُ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَنْعَدِمَ بِهِ الْأَهْلِيَّةُ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ أَوْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْخِطَابُ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مُبْتَلًى، وَالِابْتِلَاءُ يُقَرِّرُ الْخِطَابَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ مُخَاطَبٌ فِي غَيْرِ مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَنَوَّعَ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فَتَارَةً يَلْزَمُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَتَارَةً يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ، وَتَارَةً يُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَتَارَةً يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ آيَةُ الْخِطَابِ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْقَصْدِ، وَالِاخْتِيَارِ بِالْإِكْرَاهِ، كَيْفَ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْهُ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَ الْأَمْرَيْنِ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ: أَنَّ أَثَرَ الْإِكْرَاهِ التَّامِّ فِي الْأَفْعَالِ فِي نَقْلِ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ إلَى الْمُكْرِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ شَخْصٍ إلَى غَيْرِهِ، وَالْمَسَائِلُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ هَذَا أَيْضًا، فَإِنَّ الْبَالِغَ إذَا أَكْرَهَ صَبِيًّا عَلَى الْقَتْلِ يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى الْمُكْرِهِ، وَهَذَا الْفِعْلُ فِي مَحَلِّهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقَوَدِ، فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِانْتِقَالِهِ إلَى مَحِلٍّ آخَرَ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ فِي جَعْلِ الْمُكْرَهِ آلَةً لِلْمُكْرِهِ، فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ، وَجَعْلُ الْمُكْرَهِ آلَةً لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ بِالْإِكْرَاهِ يَنْعَدِمُ الِاخْتِيَارُ مِنْهُ أَصْلًا، وَلَكِنْ؛ لِأَنَّهُ يَفْسُدُ اخْتِيَارُهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ فَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ حَيَاتِهِ، وَذَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْدَامِ عَلَى مَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ فَيَفْسُدَ بِهِ اخْتِيَارُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْفَاسِدُ فِي مُعَارَضَةِ الصَّحِيحِ كَالْمَعْدُومِ فَيَصِيرُ الْفِعْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لِوُجُودِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ مِنْهُ، وَالْمُكْرَهُ يَصِيرُ كَالْآلَةِ لِلْمُكْرِهِ لِانْعِدَامِ اخْتِيَارِهِ حُكْمًا فِي مُعَارَضَةِ الِاخْتِيَارِ الصَّحِيحِ، وَلِهَذَا اُقْتُصِرَ عَلَى مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ فِيهِ دُونَ مَا لَا يَصْلُحُ كَالتَّصَرُّفَاتِ قَوْلًا، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَكَلُّمُ الْمَرْءِ بِلِسَانِ غَيْرِهِ، وَتَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي انْعِدَامِ الرِّضَا مِنْ الْمُكْرَهِ بِحُكْمِ الشَّبَهِ.
وَشَبَّهَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالْهَزْلِ، فَإِنَّ الْهَزْلَ عَدَمُ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ، وَالِاخْتِيَارِ فِي نَفْسِ السَّبَبِ، فَالْإِكْرَاهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْهَازِلَ غَيْرُ مَحْمُولٍ عَلَى التَّكَلُّمِ، وَالْمُكْرَهَ مَحْمُولٌ عَلَى ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ اخْتِيَارُهُ كَمَا بَيَّنَّا، وَشَبَّهَهُ بَعْضُهُمْ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يُعْدِمُ الرِّضَا بِحُكْمِ السَّبَبِ دُونَ نَفْسِ السَّبَبِ، ثُمَّ فِي الْإِكْرَاهِ يُعْتَبَرُ مَعْنًى فِي الْمُكْرِهِ، وَمَعْنًى فِي الْمُكْرَهِ، وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَمَعْنًى فِيمَا أُكْرِهَ بِهِ، فَالْمُعْتَبَرُ فِي الْمُكْرَهِ تَمَكُّنُهُ مِنْ إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ ذَلِكَ، فَإِكْرَاهُهُ هَذَيَانٌ.
وَفِي الْمُكْرَهِ الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَصِيرَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُكْرِهِ فِي إيقَاعِ مَا هَدَّدَهُ بِهِ عَاجِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُلْجَأً مَحْمُولًا طَبْعًا إلَّا بِذَلِكَ، وَفِيمَا أُكْرِهَ بِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُتْلِفًا، أَوْ مُزْمِنًا، أَوْ مُتْلِفًا عُضْوًا، أَوْ مُوجِبًا عَمَّا يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِاعْتِبَارِهِ، وَفِيمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ مُمْتَنِعًا مِنْهُ قَبْلَ الْإِكْرَاهِ إمَّا لِحَقِّهِ، أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ آخَرَ، أَوْ لِحَقِّ الشَّرْعِ، وَبِحَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِي الْكِتَابِ لِتَفْصِيلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِسَبَبِ تَصْنِيف هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَمَّا صَنَّفَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا الْكِتَابِ سَعَى بِهِ بَعْضُ حُسَّادِهِ إلَى الْخَلِيفَةِ.
فَقَالَ: إنَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاكَ فِيهِ لِصًّا غَالِيًا فَاغْتَاظَ لِذَلِكَ، وَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ، وَأَتَاهُ الشَّخْصُ، وَأَنَا مَعَهُ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى الْوَزِيرِ أَوَّلًا فِي حُجْرَتِهِ، فَجَعَلَ الْوَزِيرُ يُعَاتِبُهُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَصْلًا، فَلَمَّا عَلِمْتُ السَّبَبَ أَسْرَعْتُ الرُّجُوعَ إلَى دَارِهِ، وَتَسَوَّرْتُ حَائِطَ بَعْضِ الْجِيرَانِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا سَمَّرُوا عَلَى بَابِهِ، فَدَخَلْتُ دَارِهِ، وَفَتَّشْت الْكُتُبَ حَتَّى وَجَدْتُ كِتَابَ الْإِكْرَاهِ، فَأَلْقَيْتُهُ فِي جُبٍّ فِي الدَّارِ؛ لِأَنَّ الشُّرَطَ أَحَاطُوا بِالدَّارِ قَبْلَ خُرُوجِي مِنْهَا، فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ أَخْرُجَ، وَاخْتَفَيْتُ فِي مَوْضِعٍ حَتَّى دَخَلُوا، وَحَمَلُوا جَمِيعَ كُتُبِهِ إلَى دَارِ الْخَلِيفَةِ بِأَمْرِ الْوَزِيرِ، وَفَتَّشُوهَا، فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا مِمَّا ذَكَرَهُ السَّاعِي لَهُمْ، فَنَدِمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِ، وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ، وَرَدَّهُ بِجَمِيلٍ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ أَرَادَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُعِيدَ تَصْنِيفَ الْكِتَابِ، فَلَمْ يُجِبْهُ خَاطِرُهُ إلَى مُرَادِهِ، فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بَعْضَ وُكَلَائِهِ أَنْ يَأْتِيَ بِعَامِلٍ يُنَقِّي الْبِئْرَ؛ لِأَنَّ مَاءَهَا قَدْ تَغَيَّرَ، فَلَمَّا نَزَلَ الْعَامِلُ فِي الْبِئْرِ، وَجَدَ الْكِتَابَ فِي آجُرَّةٍ، أَوْ حَجَرِ بِنَاءٍ مِنْ طَيِّ الْبِئْرِ لَمْ يَبْتَلَّ، فَسُرَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ يُخْفِي الْكِتَابَ زَمَانًا، ثُمَّ أَظْهَرَهُ، فَعُدَّ هَذَا مِنْ مَنَاقِبِ مُحَمَّدٍ، وَمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِحَّةِ تَفْرِيعِهِ لِمَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي الرَّجُلِ يُجْبِرُهُ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ، وَالْعَتَاقِ، فَيُطَلِّقُ، أَوْ يُعْتِقُ، وَهُوَ كَارِهٌ إنَّهُ جَائِزٌ وَاقِعٌ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا، وَهُوَ يَقَعُ كَيْفَمَا كَانَ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَقَالُوا: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ، وَاقِعٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا، أَوْ غَيْرَهُ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ، أَوْ غَيْرِ مُتْلِفٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذَا الْفَصْلِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ السَّلَفِ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، وَلِهَذَا اسْتَكْثَرَ مِنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ عَلَى مُوَافَقَةِ قَوْلِ إبْرَاهِيمَ.
وَفِي قَوْلِهِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهُ بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ بَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْخِطَابِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَإِنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ عَدَمَ الرِّضَا بِحُكْمِ الطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ الْوُقُوعَ، وَلِهَذَا وَقَعَ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ عِنْدَ الْإِيقَاعِ، وَمَعَ الْهَزْلِ مِنْ الْمُوقِعِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا، وَكَأَنَّهُ أَخَذَ هَذَا اللَّفْظَ مِمَّا ذَكَرَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ: إنَّهَا اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَابْتَلَاهَا بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَجَازَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ذُكِرَ لَهُ أَنَّ رَجُلًا ضَرَبَ غُلَامَهُ حَتَّى طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعَ، وَإِنَّمَا فَهِمُوا مِنْهُ بِهَذَا الْفَتْوَى بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ حَتَّى قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ رَاوِي الْحَدِيثِ: أَيْ هُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ بِئْسَ مَا صَنَعَ أَيْ حِينَ فَرَّقَ بَيْنَهُ، وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ، وَمَنْ قَالَ: لَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ يَقُولُ: مُرَادُ سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِئْسَ مَا صَنَعَ فِي اكْتِسَابِهِ بِالْإِكْرَاهِ، وَتَضْيِيعِهِ، وَقْتَ نَفْسه، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الشَّرْعُ قَصْدَهُ، وَجَعَلَ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ لَغْوًا، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ.
وَأَصْلُ هَذَا فِيمَا إذَا بَاعَ رَجُلًا عَيْنًا مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ الْمَالِكَ بِهِ، فَقَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعْت، وَهَذَا اللَّفْظُ فِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ: نِعْمَ مَا صَنَعْت، أَوْ أَحْسَنْت، أَوْ أَصَبْت، فَإِنَّ فِي اللَّفْظِ الْأَوَّلِ إظْهَارُ الْكَرَاهَةِ لِصُنْعِهِ، وَفِي اللَّفْظِ الثَّانِي إظْهَارُ الرِّضَا بِهِ، وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى عَكْس هَذَا: أَنَّ قَوْلَهُ نِعْمَ مَا صَنَعْت يَكُونُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ بِهِ فِي الْعَادَةِ، فَيَكُونُ رَدًّا لَا إجَازَةً، وَقَوْلُهُ بِئْسَ مَا صَنَعْت يَكُونُ إجَازَةً؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلتَّأَسُّفِ عَلَى مَا فَاتَهُ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ، وَزَالَ مِلْكُهُ، فَجَعَلْنَاهُ إجَازَةً لِذَلِكَ، وَعَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو الطَّائِيِّ أَنَّ رَجُلًا كَانَ مَعَ امْرَأَتِهِ نَائِمًا، فَأَخَذَتْ سِكِّينًا، وَجَلَسَتْ عَلَى صَدْرِهِ، فَوَضَعَتْ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَقَالَتْ: لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا أَلْبَتَّةَ أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا اللَّهَ، فَأَبَتْ عَلَيْهِ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ»، وَفِيهِ دَلِيلُ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» تَأْوِيلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا بِمَعْنَى الْإِقَالَةِ، وَالْفَسْخِ أَيْ لَا يَحْتَمِلُ الطَّلَاقَ، وَالْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَإِنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ مَا يَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ، أَوْ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا، وَالثَّانِي- أَنَّ الْمُرَادَ إنَّمَا اُبْتُلِيَتْ بِهَذَا لِأَجْلِ يَوْمِ الْقَيْلُولَةِ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ.
وَبِطَرِيقٍ آخَرَ يُرْوَى هَذَا الْحَدِيثُ «أَنَّ رَجُلًا خَرَجَ مَعَ امْرَأَتِهِ إلَى الْجَبَلِ لِيَمْتَارَ الْعَسَلَ، فَلَمَّا تَدَلَّى مِنْ الْجَبَلِ بِحَبْلٍ، وَضَعَتْ السِّكِّينَ عَلَى الْحَبْلِ، فَقَالَتْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا، أَوْ لَأَقْطَعَنَّهُ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَسْتَفْتِيَ، فَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ، وَأَمْضَى طَلَاقَهُ»، وَذُكِرَ نَظِيرُ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ مُبْغِضَةً لِزَوْجِهَا، فَرَاوَدَتْهُ عَلَى الطَّلَاقِ، فَأَبَى، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَامَتْ إلَى سَيْفِهِ فَأَخَذَتْهُ، ثُمَّ وَضَعَتْهُ عَلَى بَطْنِهِ، ثُمَّ حَرَّكَتْهُ بِرِجْلِهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ قَالَتْ لَهُ، وَاَللَّهِ لَأُنْفِذَنَّكَ بِهِ، أَوْ لَتُطَلِّقَنِّي ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا، فَأَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَاسْتَغَاثَ بِهِ فَشَتَمَهَا، وَقَالَ: وَيْحَكِ مَا حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ، فَقَالَتْ بُغْضِي إيَّاهُ، فَأَمْضَى طَلَاقَهُ.
، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ وَاقِعٌ، وَلَا يُقَالُ: فِي هَذَا كُلِّهِ إنَّ هَذَا الْإِكْرَاهَ كَانَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَتَحَقَّقُ بِالِاتِّفَاقِ، فَإِنَّهُ صَارَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ لَمَّا كَانَتْ مُتَمَكِّنَةً مِنْ إيقَاعِ مَا خَوَّفَتْهُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ: فَشَتَمَهَا أَيْ نَسَبَهَا إلَى سُوءِ الْعِشْرَة، وَالصُّحْبَةِ، وَإِلَى الظُّلْمِ كَمَا يَلِيقُ بِفِعْلِهَا لَا أَنْ يَكُونَ ذَكَرَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِيهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بُهْتَانٌ لَا يُظَنُّ بِهِ، وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ قَالَ: طَلَاقُ الْمُكْرَهِ جَائِزٌ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَرْبَعٌ وَاجِبَاتٌ عَلَى مَنْ تَكَلَّمَ بِهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ يَعْنِي النَّذْرَ الْمُرْسَلَ إذْ الْيَمِينُ بِالنَّذْرِ يَمِينٌ، وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ: هَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ لَازِمٌ إنْ كَانَ جَادًّا فِيهِ، أَوْ هَازِلًا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، أَوْ لَمْ يُكْرَهْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ تَمَامُ الرِّضَا، وَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ وُقُوعِهِ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ فِيهِنَّ: الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالصَّدَقَةُ يَعْنِي النَّذْرَ بِالصَّدَقَةِ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الْهَزْلَ، وَالْجِدَّ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ، فَالْهَازِلُ لَاعِبٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُرِيدُ بِالْكَلَامِ غَيْرَ مَا وُضِعَ لَهُ الْكَلَامُ.
وَذُكِرَ نَظِيرَهُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ثَلَاثٌ لَا لَعِبَ بِهِنَّ، وَاللَّعِبُ فِيهِنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ، وَالطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ثَلَاثٌ لَيْسَ فِيهِنَّ لَعِبٌ: الطَّلَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالْعَتَاقُ، وَأَيَّدَ هَذَا كُلَّهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ الطَّلَاقُ، وَالرَّجْعَةُ، وَالنِّكَاحُ»، وَإِنَّمَا، أَوْرَدَ هَذِهِ الْآثَارَ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مِنْ الْمُكْرَهِ، فَلِلْوُقُوعِ حُكْمُ الْجِدِّ مِنْ الْكَلَامِ، وَالْهَزْلُ ضِدُّ الْجِدِّ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ الْوُقُوعُ مَعَ وُجُودِ مَا يُضَادُّ الْجِدَّ، فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ الْوُقُوعُ بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يُضَادُّ الْجِدَّ، فَإِنَّهُ أُكْرِهَ عَلَى الْجِدِّ، وَأَجَابَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا ضِدُّ الْإِكْرَاهِ الرِّضَا، فَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْبَيِّنَةِ لُزُومُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مَعَ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لُزُومُهَا بِمَا هُوَ ضِدُّ الْجِدِّ، فَلَأَنْ لَا يَمْتَنِعَ لُزُومُهَا مَعَ جِدٍّ أَقْدَمَ عَلَيْهِ عَنْ إكْرَاهٍ أَوْلَى، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَرْبَعٌ مُبْهَمَاتٌ مُقْفَلَاتٌ لَيْسَ فِيهِنَّ رَدُّ يَدٍ الطَّلَاقُ، وَالْعَتَاقُ، وَالنِّكَاحُ، وَالنَّذْرُ، وَقَوْلُهُ مُبْهَمَاتٌ أَيْ وَاقِعَاتٌ عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي اللُّزُومِ مُكْرَهًا كَانَ الْمُوقِعُ أَوْ طَائِعًا يُقَالُ: فَرَسُ بَهِيمٍ إذَا كَانَ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ، وَقَوْلُهُ مُقْفَلَاتٌ أَيْ لَازِمَاتٌ لَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِسَبَبِ الْعُذْرِ، وَقَدْ بَيَّنَّ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ فِيهِنَّ رَدُّ يَدٍ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَجْبَرَ السُّلْطَانُ عَلَى الطَّلَاقِ فَهُوَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ لِصًّا فَلَا شَيْءَ، وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: الْإِكْرَاهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِهِ، ثُمَّ ظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ الْمُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ إذَا كَانَ سُلْطَانًا يَقَعُ، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُ الْمُكْرَهِ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ لِصًّا، وَلَكِنَّا نَقُولُ: مُرَادُهُ بَيَانُ الْوُقُوعِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ يَعْنِي أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ سُلْطَانًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ جَائِزٌ فَإِذَا كَانَ لِصًّا، أَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا؛ لِأَنَّ إكْرَاهِ اللِّصِّ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا: كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ، وَإِنَّمَا اُسْتُدِلَّ بِقَوْلِهِمَا عَلَى وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ؛ لِأَنَّهُمَا حَكَمَا بِلُزُومِ كُلِّ طَلَاقٍ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ، وَالْمَعْتُوهِ، وَالْمُكْرَهُ لَيْسَ بِصَبِيٍّ، وَلَا مَعْتُوهٍ، وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُمَا لِبَقَاءِ الْأَهْلِيَّةِ، وَالْخِطَابِ مَعَ الْإِكْرَاهِ، وَعَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فَتًى أَسْوَدَ كَانَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَبَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَسْعَى عَلَى الصَّدَقَةِ، وَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ بِهَذَا الْغُلَامِ مَعَك يَرْعَ غَنَمَك، وَيُعِنْك، فَتُعْطِيَهُ مِنْ سَهْمِك فَذَهَبَ بِالْفَتَى فَرَجَعَ، وَقَدْ قُطِعَتْ يَدُهُ فَقَالَ: وَيْحَكَ مَالَكَ؟ قَالَ: زَعَمُوا أَنِّي سَرَقْتُ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ الْإِبِلِ، فَقَطَعَنِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَللَّهِ لَئِنْ وَجَدْتُهُ قَطَعَك بِغَيْرِ حَقٍّ لِأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ قَالَ فَلَبِثُوا مَا لَبِثُوا، ثُمَّ إنَّ مَتَاعًا لِامْرَأَةِ أَبِي بَكْرٍ سُرِقَ، وَذَلِكَ الْأَسْوَدُ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَرَفَعَ يَدَهُ إلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى السَّارِقِ اللَّهُمَّ أَظْهِرْ عَلَى السَّارِقِ، فَوَجَدُوا ذَلِكَ الْمَتَاعَ عِنْدَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَيْحَكَ مَا أَجْهَلَك بِاَللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَقُطِعَتْ رِجْلُهُ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قُطِعَتْ رِجْلُهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا، فَوَائِدَ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ، وَاخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ أَنَّ الْفَتَى كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ، وَالرِّجْلِ، فَقُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، وَهُنَا ذَكَرَ أَنَّهُ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدِ، فَقَطَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِجْلَهُ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْحَدِيثَ هُنَا لِحَرْفٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ، (وَاَللَّهِ لَئِنْ وَجَدْتُهُ قَطَعَك بِغَيْرِ حَقٍّ لَأُقِيدَنَّكَ مِنْهُ) وَبِهِ نَأْخُذُ، فَنَقُولُ إذَا بَعَثَ الْخَلِيفَةُ عَامِلًا، فَأَمَرَ رَجُلًا بِقَطْعِ يَدِ غَيْرِهِ، أَوْ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فِعْلِهِ أَنَّ الْقِصَاصَ عَلَى الْعَامِلِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ لِأَنَّ أَمْرَ مِثْلِهِ إكْرَاهٌ، فَإِنَّ مِنْ عَادَةِ الْعُمَّالِ أَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يُعَاقِبُونَ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بِالْقَتْلِ، وَغَيْرِهِ، وَالْفِعْلُ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ}
، وَاللَّعِينُ مَا كَانَ يُبَاشِرُ حَقِيقَتَهُ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُطَاعًا بِأَمْرِهِ، وَالْأَمْرُ مِنْ مِثْلِهِ إكْرَاهٌ، وَالْكَلَامُ فِي الْإِكْرَاهِ عَلَى الْقَتْلِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
.
، وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ «أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمْ يَتْرُكُوهُ حَتَّى سَبَّ اللَّهَ، وَرَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، ثُمَّ تَرَكُوهُ، فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: شَرٌّ مَا تَرَكُونِي حَتَّى نِلْتُ مِنْك، وَذَكَرْتُ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: فَكَيْفَ تَجِدُ قَلْبَك؟ قَالَ: أَجِدُهُ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنْ عَادُوا، فَعُدْ»، فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُجْرِيَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مُطْمَئِنَّ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ اعْتِقَادَهُ بِمَا أَجْرَاهُ عَلَى لِسَانِهِ.
(أَلَا تَرَى) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ حَالِ قَلْبِهِ، فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ لَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَحْمِلُونَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «فَإِنْ عَادُوا فَعُدْ» عَلَى ظَاهِرِهِ يَعْنِي إنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ، فَعُدْ إلَى مَا كَانَ مِنْك مِنْ النَّيْلِ مِنِّي، وَذِكْرِ آلِهَتِهِمْ بِخَيْرٍ، وَهُوَ غَلَطٌ، فَإِنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَأْمُرُ أَحَدًا بِالتَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الشِّرْكِ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَإِنْ عَادُوا إلَى الْإِكْرَاهِ، فَعُدْ إلَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ التَّكَلُّمَ وَإِنْ كَانَ يُرَخَّصُ لَهُ فِيهِ، فَالِامْتِنَاعُ مِنْهُ أَفْضَلُ.
(أَلَا تَرَى) «أَنَّ خُبَيْبَ بْنَ عَدِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا امْتَنَعَ حَتَّى قُتِلَ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلَ الشُّهَدَاءِ، وَقَالَ: هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ وَقِصَّتُهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ، وَبَاعُوهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يُعَاقِبُونَهُ عَلَى أَنْ يَذْكُرَ آلِهَتَهُمْ بِخَيْرٍ، وَيَسُبَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ، وَيَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْرٍ، فَأَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمَّا أَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ سَأَلَهُمْ أَنْ يَدَعُوهُ لِيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ، فَأَوْجَزَ صَلَاتَهُ، ثُمَّ قَالَ إنَّمَا أَوْجَزْتُ لِكَيْ لَا تَظُنُّوا أَنِّي أَخَافُ الْقَتْلَ، ثُمَّ سَأَلَهُمْ أَنْ يُلْقُوهُ عَلَى وَجْهِهِ لِيَكُونَ هُوَ سَاجِدًا لِلَّهِ حِينَ يَقْتُلُونَهُ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ ذَلِكَ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَا أَرَى هُنَا إلَّا وَجْهَ عَدُوٍّ، فَأَقْرِئْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنِّي السَّلَامَ اللَّهُمَّ احْصِ هَؤُلَاءِ عَدَدًا، وَاجْعَلْهُمْ بَدَدًا، وَلَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ: وَلَسْت أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ لِلَّهِ مَصْرَعِي، فَلَمَّا قَتَلُوهُ، وَصَلَبُوهُ تَحَوَّلَ، وَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَجَاءَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقْرِئُهُ سَلَامَ خُبَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَقَالَ هُوَ أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ، وَهُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ»، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِامْتِنَاعَ أَفْضَلُ.
وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ} قَالَ ذَلِكَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي سَرْحٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخَذَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَكْرَهُوهُ عَلَى مَا أَكْرَهُوا عَلَيْهِ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَابَهُمْ إلَى ذَلِكَ مُعْتَقِدًا، فَأَكْرَمُوهُ، وَكَانَ مَعَهُمْ إلَى أَنْ فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُبَايِعَهُ، وَفِيهِ قِصَّةٌ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا}، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إذَا بَدَّلَ الِاعْتِقَادَ يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ مُكْرَهًا كَانَ، أَوْ طَائِعًا، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَبْدِيلِ الِاعْتِقَادِ، فَإِنَّهُ لَا اطِّلَاعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ عَلَى اعْتِقَادِهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ أَيْضًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ بَعْدِ إيمَانِهِ}، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى {إلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}، فَهُوَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ، وَعَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ الشَّعْبِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ يَأْمُرُ عَبْدَهُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا قَالَ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ: قَائِلٌ: يُقْتَلُ الْعَبْدُ، وَآخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْعَبْدُ، وَآخَرُ قَالَ: يُقْتَلُ الْمَوْلَى، وَالْمُرَادُ بَيَانُ حُكْمِ الْقِصَاصِ عِنْدَ الْقَتْلِ مُكْرَهًا أَنَّهُ عَلَى مَنْ يَجِبُ، فَإِنَّ أَمْرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ خَالَفَ أَمْرَهُ كَأَمْرِ السُّلْطَانِ فِي حَقِّ رَعِيَّتِهِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ الْقَوْلَ الرَّابِعَ، وَهُوَ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا، وَكَانَ هَذَا الْقَوْلُ لَمْ يَكُنْ فِي السَّلَفِ، وَإِنَّمَا سَبَقَ بِهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاسْتَحْسَنَهُ، وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُفْتِيَ لَا يَقْطَعُ الْجَوَابَ عَلَى شَيْءٍ، وَلَكِنْ يَذْكُرُ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَادِثَةِ كَمَا، فَعَلَهَا الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْمُسْتَفْتِي مِمَّنْ يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَقَاوِيلِ، وَيُرَجِّحُ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِبَيَانِ أَقَاوِيلِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ، فَلَا بُدَّ لِلْمُفْتِي مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ لَهُ أَصَحَّ الْأَقَاوِيلِ عِنْدَهُ لِلْأَخْذِ بِهِ، وَعَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْمُؤْمِنِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً، وَبِهِ نَأْخُذُ.
، وَالتَّقِيَّةُ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بِمَا يُظْهِرُهُ، وَإِنْ كَانَ يُضْمِرُ خِلَافَهُ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ النَّاسِ يَأْبَى ذَلِكَ، وَيَقُولُ: إنَّهُ مِنْ النِّفَاقِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}، وَإِجْرَاءُ كَلِمَةِ الشِّرْكِ عَلَى اللِّسَانِ مُكْرَهًا مَعَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ مِنْ بَابِ التَّقِيَّةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِيهِ لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّقِيَّةِ يَجُوزُ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالرُّسُلِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، فَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الدَّعْوَةِ إلَى الدِّينِ الْحَقِّ، وَقَدْ جَوَّزَهُ بَعْضُ الرَّوَافِضِ لَعَنَهُمْ اللَّهُ، وَلَكِنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَقْطَعَ الْقَوْلَ بِمَا هُوَ شَرِيعَةٌ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلَهُ تَقِيَّةً، وَالْقَوْلُ بِهَذَا مُحَالٌ، وَقَوْلُهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَجْعَلُ فِي الْقَتْلِ تَقِيَّةً: يَعْنِي إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ طَاعَةِ الْمَخْلُوقِ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَإِيثَارِ رُوحِهِ عَلَى رُوحِ مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ؛ لِأَنَّ الشِّرْكَ بِاَللَّهِ أَعْظَمُ الْأَشْيَاءِ وِزْرًا، وَأَشَدُّهَا تَحْرِيمًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرُنَّ مِنْهُ} إلَى قَوْلِهِ عَزَّ، وَجَلَّ {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا}، ثُمَّ يُبَاحُ لَهُ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ وَلَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ عِظَمُ حُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا التَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِالْيَدِ يَعْنِي الْقَتْلَ، وَالتَّقِيَّةُ بِاللِّسَانِ هُوَ إجْرَاءُ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مُكْرَهًا، وَعَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: فِتْنَةُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ قَالُوا لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ إنَّ الرَّجُلَ لَيُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَرْكَبَ الْخَشَبَ يَعْنِي الَّذِي يُرَادُ صَلْبُهُ يُضْرَبُ بِالسَّوْطِ حَتَّى يَصْعَدَ السُّلَّمَ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ مَا يُرَادُ بِهِ إذَا صَعِدَ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ يَتَحَقَّقُ بِالتَّهْدِيدِ بِالضَّرْبِ الَّذِي يَخَافُ مِنْهُ التَّلَفَ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ الْعَذَابُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ}، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أَيْ عَذَّبُوهُمْ، فَمَعْنَاهُ عَذَابُ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ السَّيْفِ؛ لِأَنَّ الْأَلَمَ فِي الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ يَكُونُ فِي سَاعَتِهِ، وَتَوَالِي الْأَلَمِ فِي الضَّرْبِ بِالسَّوْطِ إلَى أَنْ يَكُونَ آخِرَهُ الْمَوْتُ، وَقَدْ كَانَ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِمَّنْ يَسْتَعْمِلُ التَّقِيَّةَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ يُدَارِي رَجُلًا، فَقِيلَ لَهُ: إنَّك مُنَافِقٌ، فَقَالَ لَا، وَلَكِنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ كُلُّهُ، وَقَدْ اُبْتُلِيَ بِبَعْضِ ذَلِكَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَخَذُوهُ، وَاسْتَحْلَفُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَنْصُرَ رَسُولَ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ، فَلَمَّا تَخَلَّصَ مِنْهُمْ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «أَوْفِ لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ»، وَذَكَرَ عَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: بَعَثَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِتَمَاثِيلَ مِنْ صُفْرٍ تُبَاعُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، فَمُرَّ بِهَا عَلَى مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: وَاَللَّهِ لَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُنِي لَغَرَّقْتُهَا، وَلَكِنِّي أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنِي، فَيَفْتِنَنِي، وَاَللَّهِ لَا أَدْرِي أَيَّ الرَّجُلَيْنِ مُعَاوِيَةُ رَجُلٌ قَدْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ، أَوْ رَجُلٌ قَدْ يَئِسَ مِنْ الْآخِرَةِ، فَهُوَ يَتَمَتَّعُ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ هَذِهِ تَمَاثِيلُ كَانَتْ أُصِيبَتْ فِي الْغَنِيمَةِ، فَأَمَرَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِبَيْعِهَا بِأَرْضِ الْهِنْدِ لِيَتَّخِذَ بِهَا الْأَسْلِحَةَ، وَالْكُرَاعَ لِلْغُزَاةِ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي جَوَازِ بَيْعِ الصَّنَمِ، وَالصَّلِيبِ مِمَّنْ يَعْبُدُهُ كَمَا هُوَ طَرِيقَةُ الْقِيَاسِ.
وَقَدْ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ مَسْرُوقٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا هُوَ طَرِيقُ الِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كَرَاهَةِ ذَلِكَ وَمَسْرُوقٌ مِنْ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ، وَكَانَ يُزَاحِمُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْفَتْوَى، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِهِ فِي مَسْأَلَةِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْمُجْتَهَدَاتِ يُلْحِقُ بَعْضُهُمْ الْوَعِيدَ بِالْبَعْضِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَقَحَّمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ، فَلْيَقُلْ فِي الْحَدِيثِ يَعْنِي بِقَوْلِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا هَذَا؛ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِمَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ فِي مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا قَالَ عَنْ اعْتِقَادٍ، وَقَدْ كَانَ هُوَ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَكَانَ كَاتِبَ الْوَحْيِ، وَكَانَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمُلْكِ بَعْدَهُ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا إذَا مَلَكْتَ أَمَرَ أُمَّتِي، فَأَحْسِنْ إلَيْهِمْ إلَّا أَنَّ نَوْبَتَهُ كَانَتْ بَعْدَ انْتِهَاءِ نَوْبَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَمَضَى مُدَّةُ الْخِلَافَةِ، فَكَانَ هُوَ مُخْطِئًا فِي مُزَاحَمَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَارِكًا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ الِانْقِيَادِ لَهُ؛ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا، وَيُحْكَى أَنَّ أَبَا بَكْرِ مُحَمَّدَ بْنَ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَنَالُ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ، فَرَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنَّ شَعْرَةً تَدَلَّتْ مِنْ لِسَانِهِ إلَى مَوْضِعِ قَدَمِهِ، فَهُوَ يَطَؤُهَا، وَيَتَأَلَّمُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَقْطُرُ الدَّمُ مِنْ لِسَانِهِ، فَسَأَلَ الْمُعَبِّرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّك تَنَالُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِيَّاكَ، ثُمَّ إيَّاكَ.
وَقَدْ قِيلَ: فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ أَيْضًا أَنَّ تِلْكَ التَّمَاثِيلَ كَانَتْ صِغَارًا لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ، وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ مِثْلِ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ نَقْشُ رَجُلٍ بَيْنَ أَسَدَيْنِ يَلْحَسَانِهِ، وَكَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي هُرَيْرَةَ ذُبَابَتَانِ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ مَا صَغُرَ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنَّ مَسْرُوقًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يُبَالِغُ فِي الِاحْتِيَاطِ، فَلَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا بَيْعُهُ، ثُمَّ كَانَ تَغْرِيقُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَهُ، وَقَدْ تَرَكَ ذَلِكَ مَخَافَةً عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِ تَبْيِينُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ التَّقِيَّةِ، وَأَنَّهُ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ بَعْضِ مَا هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ خَوْفِ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ التَّعْذِيبَ بِالسَّوْطِ يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْإِكْرَاهُ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَوْ عَلِمْتُ أَنَّهُ يَقْتُلُنِي لَغَرَّقْتهَا، وَلَكِنْ أَخَافُ أَنْ يُعَذِّبَنِي، فَيَفْتِنَنِي، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ فِتْنَةَ السَّوْطِ أَشَدُّ مِنْ فِتْنَةِ السَّيْفِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَا جُنَاحَ عَلَيَّ فِي طَاعَةِ الظَّالِمِ إذَا أَكْرَهَنِي عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بَيَانَ جَوَازِ التَّقِيَّةِ فِي إجْرَاءِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ إذَا أَكْرَهَهُ الْمُشْرِكُ عَلَيْهَا، فَالظَّالِمُ هُوَ الْكَافِرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ}، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ طَاعَةَ الظَّالِمِ فِي الْقَتْلِ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ عَلَى الْمُكْرَهِ فِي الْقَتْلِ لَا يَنْدَفِعُ بِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ بَلْ إذَا قَدِمَ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ آثِمًا إثْمَ الْقَتْلِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.